سورة الجمعة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجمعة)


        


{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}
اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة، وبين في النبوة أنه عليه السلام بعث إلى الأميين واليهود لما أوردوا تلك الشبهة، وهي أنه عليه السلام بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية أتبعه الله تعالى بضرب المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة، والإيمان بالنبي عليه السلام، والمقصود منه أنهم لما لم يعملوا بما في التوراة شبهوا بالحمار، لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها، ولم يوردوا تلك الشبهة، وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام، والبشارة بمقدمه، والدخول في دينه، وقوله: {حُمّلُواْ التوراة} أي حملوا العمل بما فيها، وكلفوا القيام بها، وحملوا وقرئ: بالتخفيف والتثقيل، وقال صاحب النظم: ليس هو من الحمل على الظهر، وإنما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان، ومنه قيل للكفيل: الحميل، والمعنى: ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها.
قال الأصمعي: الحميل، الكفيل، وقال الكسائي: حملت له حمالة. أي كفلت به، والأسفار جمع سفر وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ، ونظيره شبر وأشبار، شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة، وهي دالة على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها.
وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية، وقوله تعالى: {لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه، فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتباً، وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم، ثم ذم المثل، والمراد منه ذمهم فقال: {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} أي بئس القوم مثلاً الذين كذبوا، كما قال: {سَاء مَثَلاً القوم} [الأعراف: 177] وموضع الذين رفع، ويجوز أن يكون جراً، وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغاً وهو أنهم كذبوا على الله تعالى كان في غاية الشر والفساد، فلهذا قال: {بِئْسَ مَثَلُ القوم} والمراد بالآيات هاهنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس ومقاتل، وقيل: الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أشبه هنا {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} قال عطاء: يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وهاهنا مباحث:
البحث الأول: ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات؟ نقول: لوجوه منها: أنه تعالى خلق {الخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} والزينة في الخيل أكثر وأظهر؛ بالنسبة إلى الركوب، وحمل الشيء عليه، وفي البغال دون، وفي الحمار دون البغال، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال، وغيرهما من الحيوانات، ومنها: أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، وذلك في الحمار أظهر، ومنها: أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير، والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى، ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم، لكونه ذلولاً، سلس القياد، لين الانقياد، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة.
وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها: أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
الثاني: {يَحْمِلُ} ما محله؟ نقول: النصب على الحال، أو الجر على الوصف كما قال في الكشاف إذا الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** (فمررت ثمة قلت لا يعنيني)
الثالث: قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ القوم} كيف وصف المثل بهذا الوصف؟ نقول: الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال: بئس القوم قوماً مثلهم هكذا.
ثم إنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى:


{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}
هذه الآية من جملة ما مر بيانه، وقرئ: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} بكسر الواو، و{هَادُواْ} أي تهودوا، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فلو كان قولكم حقاً وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء
فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه، وقوله تعالى: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات، وذكر مرة بلفظ التأكيد {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} ومرة بدون لفظ التأكيد {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} وقوله: {أَبَدًا... والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها.


{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة، ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، وقوله تعالى: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إما عياناً مقروناً بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيراً فخير. وإن كان شراً فشر، فقوله: {إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد. ثم في الآية مباحث:
البحث الأول: أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء، وفي قراءة ابن مسعود {ملاقيكم} من غير {فَإِنَّهُ}.
الثاني: أن يقال: الموت ملاقيهم على كل حال، فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟ قيل: إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، وقد صرح بهذا المعنى، وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله:
ومن هاب أسباب المنايا تناله *** ولو نال أسباب السماء بسلم

1 | 2 | 3